فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما بين أن مآلهم الضلال، دعا عليهم فقال مفتتحًا أيضًا بالنداء باسم الرب ثالثًا لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها: {ربنا اطمس} أي أوقع الطمس وهو التسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه: {على أموالهم}.
ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآياته والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى، وكان عالمًا بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال، قال: {واشدد} أي شدًا ظاهرًا لكل أحد- بما أشار إليه الفك مستعليًا: {على قلوبهم} قال ابن عباس: اطبع عليها وامنعها من الإيمان، وأجاب الدعاء بقوله: {فلا يؤمنوا} أي ليتسبب عن ذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادئ العذاب الطمس: {حتى يروا} أي بأعينهم: {العذاب الأليم} حيث لا ينفعهم الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدوام ذلهم بالعقاب؛ وهذه الآية منبهة على أن الرضى بكفر خاص لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى بالمنهاج: وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين: أحدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه- فيجب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضيًا له، ونقل عنه أيضًا أنه قال: ولو كان في قلب مسلم على كافر فأسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحامل لله على كراهته؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلمًا ففرح هل يأثم! إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم، وإن فرح بكونه خلص من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرح- انتهى.
ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عل عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال: «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرًا!» فما حال عليه الحول حتى مات كافرًا إلى النار، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب: إن ذلك إفراط، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هو المعتمد، والمسألة في أصل الروضة.
فإنه قال: لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: رزقه الله الإيمان، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة؛ قلت: ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهًا ضعيفًا أنه لو قال مسلم: سلبه الله الإيمان، كفر- والله أعلم، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال: إن الدعاء بذلك معصية.
ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفًا: {قال} ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة، افتتحه بحرفه فقال: {قد أجيبت دعوتكما} والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلًا وإن كان غائبًا، وذلك كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان- رضي الله عنهم- في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائبًا.
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة، سبب عن ذلك قوله: {فاستقيما} أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحًا عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جدًا واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديدًا.
أكد قوله: {ولا تتبِّعان} بالاستعجال أو الفترة عن الشكر: {سبيل الذين لا يعلمون}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}
اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار، أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولًا سبب إقدامه على تلك الجرائم، وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين، فلهذا السبب قال موسى عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا} والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب، وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق.
ثم قال: {لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ حمزة والكسائي وعاصم: {لِيُضِلُّواْ} بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء.
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين: الأول: أن اللام في قوله: {لِيُضِلُّواْ} لام التعليل، والمعنى: أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين.
الثاني: أنه قال: {واشدد على قُلُوبِهِمْ} فقال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} وذلك أيضًا يدل على المقصود.
قال القاضي: لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه: الأول: أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة.
والثاني: أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم، لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب، والثالث: أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد، لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال، ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم، وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن والرابع: أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وأن يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا، لأن ذلك كالمناقضة، فلابد من حمل أحدهما على موافقة الآخر.
الخامس: أنه لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان.
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه: الأول: أن اللام في قوله: {لِيُضِلُّواْ} لام العاقبة كقوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال، وقد أعلمه الله تعالى، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.
الثاني: أن قوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} أي لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] والمراد أن لا تضلوا، وكقوله تعالى: {قَالُواْ بلى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 172] والمراد لئلا تقولوا، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام.
الثالث: أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال: آتيتهم زينة وأموالًا لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ** غلس الظلام من الرباب خيالا

أراد أكذبتك فكذا ههنا.
الرابع: قال بعضهم: هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام، فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك.
الخامس: أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سببًا لمزيد البغي والكفر، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى.
السادس: بينا في تفسير قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال: الماء في اللبن أي هلك فيه.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} معناه: ليهلكون ويموتوا، ونظيره قوله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} [التوبة: 55] فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارًا كثيرة في هذا الكتاب، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول: الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه: الأول: أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى.
فإن قالوا: إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى؟ فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول: فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق، فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لابد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما أراد ضده، فوجب أن يكون من الله تعالى.
الثاني: أنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبًا شديدًا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه ألبتة، وكان حصول هذا الحب يوجب الاعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر، فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديًا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولًا على حب المال والجاء.
الثالث: وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية، فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح، وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه، فلابد وأن يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى.
الرابع: أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالًا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم.
وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له، لاسيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب، وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على إنكار صدقه، فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لابد وأن يكون موجبًا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدًا.
إذا عرفت هذا فنقول: أما الوجه الأول: وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف، لأن موسى عليه السلام ما كان عالمًا بالعواقب.
فإن قالوا: إن الله تعالى أخبره بذلك؟
قلنا: فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالًا، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبًا وهو محال والمفضى إلى المحال محال.
وأما الوجه الثاني: وهو قولهم يحمل قوله: {ليضلوا عن سبيلك} على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول: إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره.
وأقول: إنه لما شرع في تفسيره قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79] ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ: {فمن نفسك} على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره هاهنا شر من ذلك، لأنه قلب النفي إثباتًا والإثبات نفيًا وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن، فلعله تعالى إنما قال: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} [النساء: 47] والطمس هو المسخ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: بلغنا أن الدراهم والدنانير، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأنصافًا وأثلاثًا، وجعل سكرهم حجارة.